من هو ليندون لاروش؟
برز ليندون لاروش (8 سبتمبر 1922 – 12 فبراير 2019) منذ منتصف السبعينات وخاصة في الثمانينات باعتباره احد اكثر المفكرين السياسيين اثارة للجدل في الحياة السياسية في الولايات المتحدة نظراً لان افكاره السياسية والاقتصادية والثقافية مخالفة لتوجهات الطبقات والمؤسسات الحاكمة والمهيمنة هناك. ولعل أكثر ما جعله يصبح مثار جدل كبير في أرجاء العالم هي الحرب الشعواء التي شنها على
تجارة المخدرات العالمية والبنوك والمؤسسات المالية التي تقف وراءها. كما انه مؤسس حركة سياسية عالمية نشطة مكونة في معظمها من الشباب بين سن 18-25 سنة لها فروع ومناصرين في الولايات المتحدة وكندا أمريكا اللاتينية وأوربا أوربا وأستراليا، ولافكاره صدى واسع في الاوساط السياسية في أمريكا الجنوبية وآسيا واوربا الشرقية لأنه يدافع عن حق جميع الشعوب في الاستقلالية التامة والسيادة المطلقة على شؤونها الاقتصادية والسياسية وحق جميع الشعوب في التنمية الصناعية الزراعية الشاملة بدون حدود أو قيود. كما انه يحضى بتقدير واحترام كبيرين في الشرق الاوسط والعالم العربي نظراً لمواقفه المبدئية المضادة للسياسات الاسرائيلية والامريكية في المنطقة في العقود الاخيرة التي تنافي مبادئ السياسة الخارجية الامريكية التقليدية حسب رأيه.
لاروش عالم الاقتصاد
إن موقف لاروش باعتباره عالم اقتصاد معروف عالميا ونجاحاته الاستثنائية باعتباره صاحب توقعات اقتصادية طويلة الأمد هي نتاج لاكتشافاته الأصلية لمبدء فيزيائي يعود إلى مشروع نفذه هو في الفترة بين عامي 1948 و 1952. هذه الاكتشافات برزت نتيجة لمعارضته لتابع بيرتراند راسل (Russel) البروفيسور نوربيرت فينر (Norbert Wiener) ومحاولة فينر كما ورد في كتابه “سايبيرنيتكس” (Cybernetics) عام 1948، لتطبيق ما يسمى “نظرية المعلومات” على عملية إيصال ونقل الأفكار. وكجزء من ذلك المشروع عارض لاروش محاولات جون فون نويمان (John von Neumann) ـ وهو من مؤيدي راسل أيضا ـ لاختزال العمليات والنشاطات الاقتصادية إلى حلول لأنظمة متفاوتات خطية آنية، إي إخراج العنصر الإبداعي الإنساني واختزال النشاط الاقتصادي إلى مصفوفات كمبيوترية لمدخلات ومخرجات عملية الانتاج.
كانت نتيجة هذا البحث هو قيام لاروش بوضع مفاهيم لاخطية للإدراك الإنساني، وتطبيقها على علم الاقتصاد الذي تأسس لأول مرة على يد جوتفريد لايبنتز (Gottfried Leibniz) بين عامي 1671-1716. هذا أوصله إلى اكتشافه العلاقة بين الاختراقات العلمية التكنولوجية الداخلة في تصميم الآلات المكنية (machine tools) والزيادة في ما يسميه لاروش “الكثافة السكانية النسبية المحتملة” للمجتمع.
ويفتتح لاروش كتابه الرئيسي في علم الاقتصاد (مترجم إلى اللغة العربية) كالآتي: “إن أول عملٍ مكتوبٍ في موضوعِ الاقتصاد هو كتابُ سِفرِ التكوين . إذ يأتي البلاغ للإنسان في سفر التكوين بان لا يكسب عيشه إلا بكد عمله اليومي. كما يُأمَرُ الإنسان أن يكون مثمراً وان يتكاثر نسله ليملأ الأرض، وان يبسط سلطانه على جميع المخلوقات والأشياء في الطبيعة. نصيحة ممتازة. إن المجتمعات التي رفضت هذه النصيحة وخالفتها لم، ولن، يكتب لها البقاء طويلا.” ولا يختلف مفهوم لاروش في “استخدام الإنسان للقوى العقلية الخلاقة التي وهبها إياه خالقه لاكتشاف قوانين الكون وتسخيرها لزيادة سلطانه على الطبيعة” كثيرا عن المفهوم الإسلامي “استخلاف الإنسان في الأرض”. كما أن لاروش يعارض جميع أنواع الربا بشكل شديد ويرفضها رفضا تاما. كما يرفض استعباد الشعوب بسبب ديونها، ويطالب بشطب أو تجميد ديون الدول الفقيرة والنامية لتتمكن من الحصول على إئتمانات جديدة وخلق امكانيات مالية وطنية تمكنها من بدء عملية تنمية تخرجها من دلقة الفقر المفرغة.
إن أبرز وأحدث دليل على مؤهلات لاروش الفريدة باعتباره مؤلف توقعات طويلة الأمد للاقتصاد الأمريكي والعالمي، قد وضعته في مركز الأزمة الاقتصادية البنيوية العالمية للاقتصاد العالمي التي تتفجر اليوم. لذلك فإن السيرة الذاتية المناسبة للاروش هي تلك التي تضع مسيرته في سياق دوره الحالي والمستقبلي المحتمل في حل هذه الأزمة العالمية.
ولدى لاروش عدة توقعات للنظام المالي الأمريكي والعالمي. الأول بدأ في الأعوام 1959-1960، حيث توقّع إنه إذا استمرت بديهيات وضع السياسات الاقتصادية التي تمت ممارستها في إدارتي ترومان وآيزنهاور، فإن النصف الثاني من عقد الستينات سيشهد سلسلةً من أزمات نقديّة ماليّة دوليّة، ستقود بالتالي نحو انهيار اتّفاقيّات بريتون وودز التي كانت موجودة آنذاك كأساس للنظام العالمي. وقع فعلا ما توقعه لاروش أثناء الفترة من خفض قيمة الإسترليني البريطاني في نوفمبر 1967 لغاية انهيار اتفاقيّات بريتون وودز في 15-16 أغسطس عام 1971.
التوقع الثاني بني على افتراض ما سينجم عن انهيار عام 1971. توقّع لاروش أنه إذا لجأت السّلطات المهيمنة إلى إجراءات تقشّفيّة شديدة بشكل متزايد، فالنتيجة لن تكون مجرد أزمة دوريّة جديدة فحسب، بل سيؤدي ذلك إلى “أزمة بنيوية شاملة” (systemic crisis) وأزمة انهيار عامة للنظام العالمي. منذ أزمة البورصة أمريكية في أكتوبر 1987، التي توقعها لاروش ضمن توقع قصير المدى، والنظام المالي العالمي يمر بسلسلة هزات وصدمات من الأزمة الآسيوية إلى الأزمة الروسية والأرجنتينية وحاليا تعاني جميع دول أوربا الغربية وخاصة الولايات المتحدة من حالة اختناق شديد وشبه إفلاس في نظامها المالي.
في عام 1995 أصدر لاروش آخر توقعاته بانهيار النظام المالي والمصرفي الأطلسي. وعرض الشكل البياني أدناه في مؤتمر عقد في الفاتيكان. وأشار لاروش إلى أن التفاوت الهائل ما بين الاستثمارات في البنية التحتية والصناعة والزراعة (المنحنى باللون الأزرق) والزيادة الهائلة في الأوراق والأدوات المالية (اللون الأحمر) المعروضة في الأسواق والتي أصبحت جميع البنوك والصناديق الاستثمارية وحتى المواطنين يستثمرون فيها مدخراتهم، ومن ثم الزيادة في ضخ السيولة النقدية (اللون الأصفر) من قبل البنوك المركزية في الولايات المتحدة واوربا واليابان، سوف يؤدي حتما إلى انهيار المنظومة المالية والمصرفية الغربية. وهذا ما وقع في عام 2008. واعتبر لاروش أن هذا النظام ينافي جميع القوانين الفيزيائية للاقتصاد، لأن عمليات الإنتاج في الاقتصاد الفعلي هي مصدر الثروة للمجتمع وليس أسواق المال والنقد. وإذا اوقفنا الاستثمار في الاقتصاد الإنتاجي وحولنا كل نشاطاتنا إلى جني المال من خلال المال، أي المقامرة في أسواق المال لجني الأرباح، فإننا سوف نقضي على مصدر ثروتنا الحقيقية.
مداخلات لاروش في التاريخ المعاصر
من الجدير بالذكر ان لاروش هو مبدع بعض اهم الافكار الستراتيجية الاقتصاديةـ السياسية التي كان وسيكون لها تأثير على مجرى التأريخ المعاصر في القرن الحادي والعشرين. ولعل بعض هذه الافكار هي:
– ريادته لفكرة استراتيجية الدفاع المشترك SDI التي سميت فيما بعد “بحرب النجوم” والتي تبناها الرئيس رونالد ريغان في عام 1983 وكان لاروش انذاك يجري محادثات مع اقطاب السياسة والصناعة السوفيت لاقناعهم بالتعاون مع الولايات المتحدة لانتاج تكنولوجيات جديدة من شأنها انقاذ العالم من شبح الرعب النووي.
– كان لاروش الذي دعي عام 1982 للقاء الرئيس المكسيكي انذاك خوسيه لوبيز بورتيللو قد قدم مجموعة اقتراحات اصبحت مسودة عمل لمشروع التكامل الاقتصادي وتوحيد دول امريكا اللاتينية وخلق كتلة اقتصادية صناعية مستقلة تمتنع عن دفع الديون وتجابه سياسات صندوق النقد الدولي الرامية الى تحويل امريكا اللاتينية الى مستعمرات بيد بنوك نيويورك. وسميت الخطة التي تبناها بورتيللو باسم “خطة خواريز” Operation Juarez . كما كان احد اول الدعاة الى الغاء ديون العالم الثالث واستبدال سياسة صندوق النقد الدولي الى سياسة تهدف الى خلق تنمية صناعية متطورة في العالم النامي عامة وفي افريقيا خاصة عن طريق التعاون مع دول العالم الصناعي على اساس الشراكة بين دول ذات سيادة. وفي ذات السنة تلقى دعوة من رئيسة وزراء الهند انديرا غاندي لمناقشة بعض من افكاره.
– طور لاروش خطة لتنمية منطقة الشرق الاوسط سميت “بخطة الواحة” التي من اهم مكوناتها انتاج كميات هائلة جديدة من المياه عن طريق تحلية مياه البحر بواسطة الطاقة النووية ذات الكفاءة والامان الفائقين بالاضافة الى الاستفادة من موقع الشرق الاوسط الجغرافي ومرور معظم المواد الخام والمنتجات شبه المصنعة بين اسيا واوربا وافريقيا عبره لبناء مناطق صناعية فيه.
– وكان لاروش من بين اول من تنبأ بانهيار جدار برلين عام 1988 وتوحيد الالمانيتين وطالب الغرب بانتهاج سياسة تعاون اقتصادي لتنمية دول المعسكر الاشتراكي على غرار خطة مارشال التي اتبعت لاعمار المانيا وفرنسا وايطاليا بعد الحرب العالمية وحذر من مغبة التعامل معها كدول مهزومة ومهانة. وحذر من سياسة ما يسمى بالتحرير الاقتصادي في روسيا التي اصبحت كما نعرف اليوم سياسة نهب وتدمير للصناعة الروسية تاركة روسيا مارداً غاضباً ومفلساً لكن لديه قوة نووية يمكنها ان تمحو البشرية من على سطح كوكب الارض.
طريق الحرير الجديد
– وفي السنوات الاخيرة اصبح لاروش معروفا خاصة في الصين وجنوب شرق اسيا وروسيا كأهم داعية إلى اعادة اعمار “طريق الحرير الجديد” او الجسر الاوربي الاسيوي،وهو مشروع صناعي تكنولوجي هائل غرضه ربط قارات اسيا واوربا وافريقيا عن طريق شبكات نقل متطورة مثل سكك الحديد والطرق السريعة وقنوات المياه وخلق مناطق صناعية وزراعية متطورة على طول هذه الطريق وجلب التنمية الى مناطق كانت معزولة عن العالم من قبل مثل اسيا الوسطى وسيبيريا وغرب الصين والمناطق الواقعة بين الهند والباكستان وافغانستان وايران وربط هذه المناطق بمنطقة الجزيرة العربية والعراق باعتبارها معبراً الى افريقيا. ويجب ان تستثمر في هذه المشروعات احدث التقنيات الموجودة في العالم الصناعي
وقد تبنت الحكومة الصينية هذه الفكرة في عام 1996 باعتبارها سياسة استراتيجية للصين. لكن في عام 2013 أعلن الرئيس الصيني شي جين بينج عن مبادرة الحزام والطريق لكي تتحول فكرة طريق الحرير الجديد إلى مشروع عالمي، وقد غير هذا المشروع معالم النظام الاقتصادي والاستراتيجي العالمي ربما للأبد بحيث أعاد التوازن في العلاقات العالمية بدل سيطرة القطب الأطلنطي على مقدرات الشعوب وسياساتها، وأنظمت جل دول أفريقيا وآسيا وحتى بعض دول أمريكا الجنوبية إلى مبادرة الحزام والطريق والنموذج الصيني في التنمية. كما أن معظم الدول العربية قد انظمت للمبادرة.
– من اهم الشروط لنجاح مثل هذا المشروع هو انشاء نظام مالي عالمي جديد، يسميه لاروش وهو الاسم الذي اصبح ملازما لحملته الانتخابية، بديلاً لنظام صندوق النقد الدولي. إن فكرة طريق الحرير الجديد ليست فقط حلما من الاحلام بل اصبحت واقعاً عمليا تعمل فيه مجموعة من الامم اهمها الصين وروسيا والباكستان وايران ودول اسيا الوسطى التي ربطت شبكات سككها الحديد وتقوم ببناء شبكات نقل النفط والغاز لتسهيل التجارة مابين هذه الامم. وحتى وان لم يشترك الغرب في هذه المشاريع او حاول اعاقتها فان القرن المقبل سيشهد تنامي تحالف ثلاثي صيني ـ روسي ـ هندي ستدخل فيه مجموعة دول اخرى اهمها ايران ودول جنوب شرق اسيا واسيا الوسطى وربما باكستان لخلق كتلة سياسية اقتصادية تضم اكثر من نصف سكان الارض. وفكرة لاروش هي ان العالم الغربي الصناعي إذا لم يدخل في هذا المشروع شريكاً اميناً فانه سيجد اقتصاده الصناعي وقد دخل دوامة من الانهيار والافلاس تحت ضغط الركود الاقتصادي الحالي.
– ولعل من اهم اعمال لاروش الكبرى هي تنبؤه بانهيار النظام المالي العالمي خلال فترة قصيرة جداً اذا لم يتم عكس السياسات الراهنة باتجاه سياسة مالية تهدف الى تحفيز بناء اقتصاديات صناعية تكنولوجية على نطاق عالمي والقضاء على جميع انواع الربا والمضاربات على العملات والاوراق المالية التي حولت الاقتصاد العالمي الى نادي قمار واصبحت كالسرطان يعيش على الاقتصاد الحقيقي. وقد تنبأ لاروش بالازمة المالية الاسيوية التي ضربت النمور الاسيوية صيف 1997 والازمة في روسيا في آب (اغسطس) عام 1998. كما انه يشدد اليوم في حملته على ان النظام المالي العالمي وخاصة في الغرب قد دخل في مرحلة الافلاس الفعلي بسبب فك الارتباط كلياً مابين الاقتصاد الفعلي المتمثل بانتاج واستهلاك السلع والخدمات وبين الاسواق المالية والنقد، بحيث اصبحت قيمة الاوراق المالية المتبادلة في الاسواق العالمية وكمية النقد المتبادل في اسواق الصرف اكبر من كمية اجمالي الناتج المحلي لجميع امم الارض بعشرات المرات. وهذا يحتم ادخال النظام المالي العالمي في اجراءات افلاس قسرية بالتعاون مابين مجموعة من الدول الكبرى .هذا اجراء مشروع ينص عليه الدستور الامريكي نفسه. وقد قدم نظريته المسماة الابعاد الثلاثة لمسلسل الانهيار المالي والاقتصادي في عام 1995 في مؤتمر عالمي في المانيا.
رؤية لاروش لتاريخ الولايات المتحدة ودورها في العالم
منذ مرحلة دراساته العلمية بين عامي 1948-1952، كان لاروش دائما يحدد الأساس السياسي العميق للصراع بين المعسكرين الحديثين في السياسة الاقتصاديّة، باعتباره صراعا بين تلك القوى التي تجد مصلحتها الشخصية في الاقتصاد القومي للبلد، مثل المزارعين والصناعيين والعمال، ضد مصالح الطبقة الأوليغاركية التي تنهب الاقتصاد القومي من خلال الآليات المالية الربوية وما شابهها.
في هذا السياق، حدد لاروش الأهمية الاستثنائية تاريخيا للثورة الأمريكية و الدستور الفدرالي الأمريكي في حقيقة أن أفكار الثورة الأمريكية بالرغم من أنها كانت من منتجات التراث الأوربي لعصر نهضة القرن الخامس عشر، إلا أن أمريكا الشمالية وفرت انفصالا ومسافة جغرافيا استراتيجيا عن أوروبا التي كان يحكمها تحالف الطبقة الأرستقراطية الإقطاعية مالكة الأرض والطبقة الأوليجاركية المالية الإقطاعية الذي يمثل تحالف كاستلريا-ميتيرنيش في مؤتمر فيينا عام 1815 نموذجا له. لذلك كانت المستعمرات الانجليزية في شمال أوربا تمثل حلما للقوى التي كانت تنشد الحرية من هذا النظام الإقطاعي الأوليجاركي وتأسيس جمهورية دستورية مستقلة في مكان بعيد عن أوربا. لهذا، ظهرت الدول القومية الأوربية الحديثة باعتبارها أشباه جمهوريات وإصلاحات برلمانية في أمم لا تزال تحكمها من القمة نفس المصالح المالية الأوليجاركية مثل بريطانيا على سبيل المثال. خلاف ذلك ظهرت جمهورية الولايات المتحدة الفيدرالية في عام 1789 باعتبارها جمهورية حرة دستورية بنظام رئاسي.
كما يعتبر لاروش أن النظام الاقتصادي الأمريكي الذي بنيت على أساسه قوة الولايات المتحدة الاقتصادية العظمى منذ القرن التاسع عشر هو “النظام الأمريكي للاقتصاد السياسي” (The American System of Political Economy) وليس نظام التجارة الحرية البريطاني لأدام سميث وشركة الهند الشرقية البريطانية كما يعتقد الكثيرون. على أساس النظام الاقتصادي الأمريكي الذي هو نظام “حمائي” وليس تجارة حرة، تكون الدولة مسؤولة عن السياسات المالية وإصدار الاعتمادات الاقتصادية عن طريق البنك الوطني لغرض تطوير البنية التحتية الاقتصادية الأساسية من قبل الدولة لتمكين الفلاحين والصناعيين من ممارسة مهنهم الحرة في ظل حماية من الدولة لانتاجهم الوطني. أما البنوك الخاصة وحليفها البنك المركزي أو “نظام الاحتياطي الفيدرالي” فليس لها دور في صنع السياسات سوى تسهيل إيصال الاعتمادات إلى من يحتاجها لأغراض تطوير الزراعة والصناعة والتجارة فقط حيث لا مكان للممارسات الإقراضية والمالية المرتبطة بالمضاربات والربا وغسيل الأموال.
هذه الرؤية ودراساته المبكرة حفزته منذ تجربة الخدمة العسكريّة التي أداها في الهند بعد الحرب العالمية ـ حيث شاهد بشاعة الظلم والفقر الذي كانت تسببه سياسات الإمبراطورية البريطانية للشعب الهندي ـ حفزته على الالتزام أخلاقيا وسياسيا بالنضال من أجل ما أصبح يعرف بالإسم الشائع “نظام اقتصادي عالمي عادل جديد”. هذه التجربة أقنعته كجندي شاب أمريكي بضرورة منح شعوب ما قد سمي أحيانا دول العالم الثالث حقوقها الكاملة وحقها المطلق في السيادة القومية والاستقلال وتحقيق تحسين نظمها التعليمية والاقتصادية من خلال استخدام أرقى ما توصلت إليه العلوم والتكنولوجيا. على هذا الأساس واصل لاروش نفس الشجار مع سياسات الإمبراطورية البريطانية و الكومنولث، نفس الشجار الذي كان جاريا بين الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت على نفس هذه القضايا، مع وينستون تشرشيل رئيس وزراء بريطانيا زمن الحرب العالمية الثانية.
هذه المعارضة وضعت لاروش عند بروز دوره قوميا وعالميا في مواجهة مباشرة مع انصار المذهب الاقتصادي والسياسي البريطاني في العالم وحلفاء بريطانيا وأنصار فكرها الإمبريالي داخل الولايات المتحدة مثل هنري كيسنجر وزبيجنيو بريجنسكي وغيرهم.
استهداف لاروش
تنطبق مقولة “ما من نبي في بلدته مكرم” بشكل كبير على حياة لاروش، جعلت افكاره ونشاطه وتأثير حركته عالمياً منذ منتصف السبعينات منه هدفا لحملات المؤسسات الحاكمة في الولايات المتحدة خاصة واوربا الغربية عموما ووسائل الإعلام المرتبطة بها، إذ وجدت فيه تهديدا للعقيدة والفلسفة السياسية التي ارادت هذه المؤسسات ترويض شعوبها وشعوب العالم النامي عليها. فهو لايرى في مصلحة الشعب الامريكي أو الأوربي تدمير افريقيا أو امريكا اللاتينية، بل المستفيد الوحيد هو مجموعة بنوك ومؤسسات مالية وسياسية. لذلك فان لاروش كان ولايزال عرضة للتهميش والتعتيم الاعلامي وتشويه السمعة التي تقودها مؤسسات اعلامية لالصاق نعوت وصفات غريبة عنه ولا اساس لها من الصحة. وقد أدت حملة قادتها الـ FBI على مدى اكثر من عقد بالتعاون مع المنظمة العنصرية اليهودية “عصبة مناهضة التشهير” Anti Defamation League وشخصيات سياسية كبيرة مثل هنري كيسنجر الذي يكن عداءً شخصياً للاروش، ادت الى تلفيق تهم باطلة به والزج به وبرفاقه في السجون الامريكية في واحدة من ابشع عمليات انتهاك حقوق الانسان. وقد هب عدد كبير من السياسيين الامريكان والعالميين للمناداة باخلاء سبيله حتى اطلق سراحه عام 1994 بعد ان قضى خمس سنين في السجن كادت ان تقضي عليه وهو رجل في السبعين من العمر.
أدين لاروش في عام 1988 وصدر عليه الحم بالسجن 15 عام بتهمة “التآمر” لارتكاب جرائم مالية بدون تقديم أية أدلة. كما حكم على بعض مساعديه بأحكام بربرية بالسجن لمدد وصل بعضها إلى 77 عام!! في واحدة من أغرب المحاكمات في التاريخ الأمريكي. وتثبت جميع الأدلة والوثائق التي أفرج عنها مؤخرا ـ والتي ولم تسمح وزارة العدل بتقديمها أثناء المحاكمة باعتبارها “أدلة سرية” ـ أن الحكومة ومؤسساتها الاستخبارية والأمنية هي التي ارتكبت جرائم بحق لاروش. وقد وصف وزير العدل الأمريكي السابق رامزي كلارك الذي تطوع للدفاع عن لاروش عملية استهدافه من قبل مؤسسات الحكومة والمحاكمة بأنها: “تضمنت نطاقا واسعا من إساءات التصرف وسوء استخدام سلطات الدولة بشكل متعمد ومنظم على مدى فترة زمنية طويلة في محاولة لتدمير حركة سياسية وقائد سياسي، ولم أشهد مثل هذه المحاكمة الفدرالية في فترة عملي أو أية فترة أخرى حسب علمي”.
لقد قال لاروش مرارا أنه يحمل فترة سجنه من عام 1989 إلى 1994 كوسام شرف وكثمن دفعه بدون تردد لالتزامه بالأفكار والقيم الأخلاقية التي لن يحيد عنها مهما كان. طبعا خرج السيد لاروش وحركته من السجن أقوى من ذي قبل.
إن استهداف و سجن ليندون لاروش بدأ برسالة من هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي السابق إلى مدير مكتب المباحث الفدرالية “إف بي آي” وليام ويبستر في 19 أغسطس 1982 (توجد نسخة من الرسالة الأصلية). وبسبب جهود كيسنجر المتكررة لتأمين حملة قضائية دوليّة ضد لاروش، قام أصدقاء كيسنجر في “مجلس المخابرات الأجنبيّة للرئيس” الأمريكي (PFIAB) بإصدار توصيات تدعم الإجراءات التي اقترحها كيسنجر في 12 يناير 1983. هذه التوصيات اعتبرت لاروش “يشكل تهديدا للأمن القومي”، ونشّطت هذه التوصيات عملية مخابرات أجنبية سرية ضدّ لاروش ومساعديه تحت بنود “الأمر التنفيذي الرئاسي 12333″ (Executive Order 12333). إن مقاضاة لاروش وعمليات التحرش به ومحاولات اغتياله هو ومساعديه كلها نتيجة لتلك العملية المسيرة من خلال ما يسمّى “الحكومة السرية” للولايات المتحدة الأمريكية. وتوجد تفاصيل كاملة عن تلك العملية والمحاكمة في موقع لاروش باللغة الانجليزية على الموقع: http://larouchein2004.net/exonerate.htm
محاولات اغتيال لاروش
تعرض لاروش لمحاولتي اغتيال بارزتين نظمتهما الأجهزة الأمنية الحكومية. فحسب وثيقة رسمية صادرة من فرع مكتب المباحث الفيدرالي في واشنطن بتاريخ 23 نوفمبر 1973 وتم العثور عليها في أرشيف مكتب المباحث الفيدرالي، قام هذا المكتب بالتخطيط لتصفية لاروش جسديا باستخدام الحزب الشيوعي الأمريكي. وبعد اكتشاف تلك الخطة وإفشالها من قبل لاروش، شنت صحيفة نيويورك تايمز حملة إعلامية مسعورة ضد لاروش للتغطية على دور مكتب المباحث الفيدرالي ودوره في محاولة اغتيال شخصية سياسية.
محاولة الاغتيال الثانية جاءت في عام 1983.
بعد تمكن لاروش من إقناع إدارة ريجان بتبني فكرة “مبادرة الدفاع الاستراتيجي” قام الرئيس رونالد ريجان بالإعلان عنها باعتبارها سياسة رسمية للويات المتحدة في 23 مارس 1983. كان لاروش قد اقترح فتح مفاوضات مع الحكومة السوفيتية لجعل هذه الاستراتيجية مشروعا مشتركا بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي لتجنيب العالم رعب الحرب النووية المستمر من الخمسينات. وقد تم اختيار لاروش للتفاوض مع الروس في قنوات خلفية غير رسمية، لكن الروس رفضوا الاقتراح، لاعتقادهم أن الولايات المتحدة والمعسكر الغربي عموما سينهاران قريبا! بالرغم من أن الرئيس وبعض أقطاب إدارته استمروا بتأييد الفكرة لغاية عام 1986 إلا أن جهات أخرى داخل الإدارة الأمريكية وخارجها كانت تريد تخريب الفكرة وتحويلها إلى مجرد غلاف هوليوودي فارغ باسم “حرب النجوم” لكي تستمر الحرب الباردة.
بدأت عملية استهداف لاروش بشكل جدي بعد عدة أيام من إعلان ريجان “المبادرة”. وفي يومي 6 و 7 أكتوبر عام 1986، بينما كان الرئيس ريجان يتحضر لعقد مؤتمر قمة مع الرئيس السوفيتي جورباتشوف في العاصمة الايسلندية ريكيافيك لبحث المبادرة، قامت قوة أمنية وعسكرية مكونة من 400 رجل من مكتب المباحث الفدرالي مدججة بالأسلحة الثقيلة والمدعومة بعربات مدرعة وطائرات هليكوبتر(!!) بمحاصرة منزل لاروش والمكاتب التابعة له. كانت الحجة الرسمية لتلك العملية العسكرية الكبرى هو تفتيش المنزل بحثا عن وثائق، لكن طبيعة ذلك التحرك كان الغرض منه افتعال مواجهة مع حراس منزله تؤدي إلى تصفية لاروش. تلك كانت أيضا إشارة لريجان للتنازل عن الفكرة. لكن ريجان أصر على طرح الفكرة، وتم إجبار القوة المهاجمة على ترك لاروش وشأنه. هكذا نجا لاروش من محاولة اغتيال حقيقية. لكن العملية استمرت لسجن الرجل الذي لم يكن ممكنا قتله، وذلك بمساعدة كل ثقل المؤسسة الإعلامية الأمريكية والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية.
قد يتسائل المرء: ماذا يخيف هؤلاء من رجل يدعون أنه هامشي وغير معروف؟
إن لاروش الذي يعتبر نفسه وريثاً لمدرسة افلاطون في الفكر الإنساني، يؤكد على انه عالم ومفكر أكثر منه سياسياً. “إنني، وعلى خلاف بقية المرشحين، مولد افكار ومفاهيم. فمعظم المرشحين هم سياسيون وليسوا منتجي افكار.” إن هم لاروش الرئيسي هو انقاذ امريكا والعالم من وحل السياسات السابقة والحالية فيقول ان شغله الرئيسي هو طرح مفاهيم الى الشعب الامريكي لتشكل حلولاً للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة، مفاهيم بديلة للسياسات السيئة التي سيطرت على عملية صنع القرار السياسي في امريكا. ويشدد على ان الولايات المتحدة امام وضع يشبه “بيرل هاربر” حيث ترتد الينا قنبلة جميع الاخطاء السياسية التي ارتكبناها في الماضي لتقضي علينا”.
View Comments (1)
Hi