طريق الحرير ليس للتجارة انما للتنمية والتقدم
حسين العسكري، معهد شيللر العالمي
10 كانون الثاني 2022
(نتمنى أن تكون هذه المادة مفيدة لجميع الناشطين في ثورة الحرير في العراق حاليا)
تحذير: إن الحكومة القادمة في العراق، التي لا يبدو من المؤشرات العامة انها تختلف عن السابقة، قد ترى في ارتفاع دخلها من صادرات النفط الذي ارتفعت أسعاره فرصة لاستدامة الاقتصاد الريعي عن طريق رشوة عامة الشعب بتعيينات جديدة ورواتب حتى يستطيعوا سد رمق العيش لكي لا تحدث انتفاضة جياع، ولكن بدون الاستثمار في تغيير هذا الواقع البائس. وفي ذات الوقت تستمر عملية نهب بقية الاموال من قبل الفاسدين في الحكومة والجهات المرتبطة بهم. هذا لغم سينفجر عاجلا ام اجلا في وجه من يخطط له.
إن ما يجب ان يطالب به الشعب العراقي هو استثمار اموال النفط (مثلما هو مقترح مثلا في اتفاقية اطار التعاون مع الصين “النفط مقابل الإعمار” او افكار اخرى نطرحها ادناه) لرفع القدرة الانتاجية للاقتصاد والمجتمع العراقي عن طريق الاستثمار في البنية التحتية (النقل، الطاقة، المياه، الاسكان، الصحة، التعليم والبحث العلمي) وتأسيس نظام تمويل مصرفي رصين لتمويل المشاريع الصناعية والزراعية لتحقيق شيء من الاكتفاء الذاتي وتصدير الفائض خاصة من المنتجات البتروكيمياوية أو من التمور.
تعليمات صندوق النقد الدولي
يشتكي صندوق النقد الدولي للحكومة العراقية من فاتورة الرواتب والتقاعد غير المستدامة، ويطالب بخفضها. الطريقة المتبعة عادة، كما جرى في اليمن في بداية الألفية هو تسريح عشرات الالاف من الموظفين الحكوميين غير المنتجين، الذين اصبحوا بين ليلة وضحاها فقراء وبدون شبكة حماية اجتماعية. هل صحيح أن ملايين الموظفين الحكوميين في البلدان العربية واكثرهم في العراق لا ينتجون، بل يتم توظيفهم لأغراض سياسية حزبية ولتفادي القلاقل الاجتماعية والانتفاضات الشعبية؟ نعم. لكن هل تسريحهم سياسة صحيحة؟ لا. الحل، وهو مالا يهتم به صندوق النقد الدولي، هو ان تقوم الدولة بالاستثمار في البنية التحتية والصناعة والزراعة والصحة والتعليم والبحث العلمي لكي يؤدي هؤلاء عملا منتجا يرفع القدرة الانتاجية لليد العاملة ومستوى الابداع بحيث تستطيع هذه اليد العاملة من تغطية احتياجاتها المعيشية وتستخدم الفائض في دعم التقاعد وتدفع الضرائب لاستدامة العملية الانتاجية في المجتمع بحيث تتم اعادة استثمار اموال الضرائب في ذات البنية التحتية وتطويرها لتتماشى مع حالة التقدم المستمرة. هذا بالإضافة إلى استثمار عائدات النفط الجديدة والمستمرة في مشاريع جديدة أكثر تطورا وتمثل مستوى جديدا من الانتاج والتكنولوجيا. مثل توطين صناعات حديثة في مجال الالكترونيات والصناعات المتقدمة (التقنيات الطبية والحياتية والمواد الصناعية الجديدة والطيران والفضاء، وغيرها) بالتعاون مع الدول الصناعية الكبرى.
إن الانسان العراقي ليس خروف او بقرة يعلف ولديه مكان يأوي إليه ويقضي معظم وقته اما بحثا عن لقمة العيش الرخيصة أو في نشاطات ترفيهية ساذجة او هدامة أو في التطرف الديني الذي اصبح ملاذا للأرواح التائهة (مع احترامنا لكل من يمارس الشعائر الدينية البناءة روحيا وفكريا). لكن هناك ما هو أكثر في حياة الانسان غير الأكل والنوم والترفيه أو العبادة. طلب العلم والعمل المبدع هو سنة من سنن خلق الإنسان واستخلافه في الأرض والكون. إن غالبية العراقيين يقضون حوالي ثلث أعمارهم في الدراسة في ظروف صعبة جدا أحيانا ويجتهدون ويسهرون الليل ويضحي أهاليهم براحتهم واموالهم لينجحوا في الامتحانات. ولكن بعد التخرج أما يجدون أنفسهم عاطلين عن العمل، أو يحصلون بعد مشقة ونضال ومظاهرات على وظيفة بسيطة وفي أغلب الأحيان غير منتجة حتى يحصل فقط على دخل لاستدامة معيشته ومعيشة أسرته.
لكن الأزمة في الاقتصاد الريعي تأتي عندما تنخفض أسعار النفط او يقل انتاجه في الحقول كما حصل في اليمن والعديد من الدول الأفريقية مرارا وتكرارا. وهذه المجتمعات لا تكون قد استثمرت أموال النفط في بناء اقتصاد قوي نسبيا مقاوم للصدمات بحيث تستطيع انتاج الحد الأدنى والأساسي من الغذاء والسلع الاستهلاكية والصناعية الأساسية واستدامة البنية التحتية. إن بلدا نفطيا مثل اليمن سابقا أو العراق الان لا يستطيع حتى ان ينتج ما يستهلكه من المحروقات النفطية. هذا مجتمع طفيلي وليس مجتمع يليق به أنه مستخلف في الأرض.
مبدأ الاستخلاف
عندما نقول مستخلف، وبدون الدخول في متاهات دينية أو تفسيرات مختلفة، نفهم مما يرد في القرآن ومن التوراة والانجيل أن الله خلق الانسان ونفخ فيه من روحه تعالى وعلمه الأسماء كلها وفرض حتى على الملائكة السجود له، ومن ثم استخلفه في الأرض. ما نفهمه من الاستخلاف هنا في السياق الاقتصادي هو ان يتولى الانسان عمارة الارض ويتكاثر نسله ويستخدم القدرة الإبداعية التي غرسها الخالق فيه لاكتشاف قوانين الكون وتطويعها لزيادة قدراته الانتاجية ومستواه المعيشي ويخرج من ورطة اعتماده الكلي على ما تجود به الطبيعة من ثمار الأشجار ومن ماء الانهار والينابيع مثلما تمنح البهائم. لقد بنى الانسان البيوت وطور الزراعة واستأنس الحيوانات وتعلم استخراج المعادن من الصخور وتعلم الابحار والسفر والاستكشاف باستخدام النجوم وعلم الفلك.
وبرغم كل النكسات في تاريخ البشرية والحروب والدمار، إلا ان البشرية استمرت في التكاثر ورفع المستوى المعيشي والانتاجي من خلال الاكتشافات العلمية والتقدم التكنولوجي. وتغيرت علاقتنا بما تسمى الموارد الطبيعية وصرنا نكتشف وأحيانا “نخلق” موارد طبيعية جديدة مثل البرونز والالمنيوم غير الموجودة في الطبيعة. وتحولنا من أجل الحصول على الطاقة من حرق الأخشاب الى الفحم ثم الفحم الحجري ثم النفط والغاز واخيرا الانشطار النووي ومستقبلا الدمج النووي. وفي كل مرة نكتشف او نخلق موردا جديدا تتحول علاقتنا بالطبيعة ومواردها كليا ويتحسن مستوانا الحياتي. لكن تأتي النكسات من مخالفة مبدأ الاستخلاف أو الركون الى الراحة والخمول وتصور اننا وصلنا الى نهاية جميع الاكتشافات والتكنولوجيات الممكنة. أو نعتقد ان الكوارث تأتي بسبب كثرة أعداد البشر. إن السبب الرئيسي للكوارث في تاريخ البشرية هي عدم احترام قدسية ومكانة الانسان. وتظهر أعراض هذا الانهيار جلية عندما تنتشر ثقافة الابتذال والإستهلاك والتركيز على إشباع الرغبات الحسية.
البرنامج الاقتصادي المقترح
ان ما ينبغي المطالبة به في العراق اليوم هو استخدام الموارد النفطية، التي سوف تنضب يوما ما، في تأسيس منظومة اقتصادية قابلة للإستدامة. الأساس هو بناء البنية التحتية المطلوبة ليتمكن المجتمع العراقي من زيادة القدرات الانتاجية والإبداعية لأفراده خاصة الشباب واستخدام الموارد البشرية والمائية والطبيعية (الأرض ومواردها والمناخ) والموقع الجغرافي لجعل العراق جزءا لا يمكن الاستغناء عنه في اقتصاد المنطقة والعالم.
إن الاقتصاد الريعي هو ليس فقط خسارة للموارد المالية الآتية من تصدير النفط، بل الخسارة الأكبر تكمن في بقاء قدرات بشرية وطبيعية هائلة عاطلة عن العمل وبعيدة عن الانتاج والابداع.
الخطوة الأولى هي تحويل النفط من مورد للنقد لشراء كل ما يحتاجه العراق من سلع من خارج الحدود إلى رصيد ائتماني يتمكن من خلاله بناء البنية التحتية اللازمة وتأسيس الصناعات والزراعة والبحث العلمي. يتم ذلك بطريقتين: أولا، عقد اتفاقيات ائتمانية مع دول صناعية لمقايضة النفط بالتكنولوجيا والإعمار. ثانيا، تأسيس بنك وطني لإعادة الاعمار أو صندوق سيادي يقرض الشركات والافراد العراقيين لتأسيس مشاريع صناعية وزراعية وإسكان وغيرها. في الحالة الأولى تعتبر اتفاقية اطار التعاون بين العراق والصين المسماة شعبيا “النفط مقابل الإعمار” النموذج الأحسن. أما في الحالة الثانية فإنه يجب وضع خمسة بالمئة من واردات النفط بشكل مستمر في بنك او صندوق رأسمالي خاص موجه للائتمانات الانتاجية. وتوجد امثلة كثيرة على مثل هذه الصناديق السيادية في دول كثيرة.
يجب أيضا ان تحتوي جميع الميزانيات الحكومية على تخصيصات لتشجيع التقدم العلمي والثقافي والفني مثل الأندية العلمية والثقافية وتخصيص موارد لتشجيع براءات الاختراع.
((()))
نورد هنا شرحا ومجموعة مقترحات عامة قمنا بكتابتها في عام 2020 بطلب من عضو في مجلس النواب العراقي، وتخص أهمية مبادرة الحزام والطريق والاتفاقية الصينية العراقية وميناء الفاو الكبير للاقتصاد العراقي:
يشير مصطلح “مبادرة الحزام والطريق” (Belt and Road Initiative – BRI) إلى مبادرة صينية لبناء مشروعين عالميين مترابطين احدهما بري والآخر بحري وأولهما هو “الحزام الاقتصادي لطريق الحرير” والثاني “طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين”. وبلغ عدد الدول المشاركة في المبادرة لغاية الآن أكثر من 130 دولة (وصلت الى 142 في مطلع عام 2022) من ضمنها العراق. يساوي عدد سكان الدول المنخرطة في المبادرة حوالي 65% من سكان العالم، وتحتفظ بما يقارب 40% من إجمالي الناتج المحلي للعالم.
وتتكون المبادرة من شقين:
أولا: الحزام الإقتصادي لطريق الحرير
دعا الرئيس الصيني شي جينبينج في خطاب ألقاه في كازاخستان في 7 سبتمبر من عام 2013 إلى تطوير “الحزام الاقتصادي لطريق الحرير”. ويتعلق هذا المفهوم ببناء ممرات تنمية مكونة من سكك الحديد والطرق وانابيب النفط والغاز وأنشطة زراعية وصناعية ومشاريع مياه وطاقة وتشييد البنية التحتية للتجارة، بحيث يمتد الحزام، حسب وصف الرئيس شي “من المحيط الهادي إلى بحر البلطيق” مستفيدا بذلك من طريق الحرير القديم. يجري العمل حاليا على تنفيذ مشاريع في أقسام عديدة من هذا “الحزام” الذي يتفرع في ثلاثة اتجاهات انطلاقا من مقاطعة سينكيانج في غرب الصين: ممر رئيسي يمر عبر دول آسيا الوسطى ومنها إلى إيران وتركيا إلى أوروبا، ومسار جنوبي يمر عبر باكستان إلى ميناء جوادار على ساحل بحر العرب، وشمالي عبر كازاخستان إلى روسيا وشمال أوروبا. يمر “الحزام الاقتصادي لطريق الحرير” عبر 18 بلد آسيوي وأوروبي، ويؤثر في عدد من السكان يبلغ 3 مليارات نسمة. وقد تطور الحزام ليشمل ستة ممرات برية تربط الصين بالدول المحيطة بها وامتدادا نحو اوربا والشرق الأوسط غربا.
ثانيا: طريق الحرير البحري
دعا الرئيس الصيني شي جينبينج لبناء “طريق حرير بحري للقرن الحادي والعشرين” أثناء زيارة له إلى اندونيسيا في اكتوبر عام 2013. غرض هذا الطريق هو تعزيز التنمية المشتركة عبر التجارة على طول مسار الخطوط البحرية لجنوب اوراسيا من المحيط الهادئ إلى البحر العربي وشرق أفريقيا والبحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط والشواطئ الشرقية للمحيط الأطلسي في غرب أوروبا. إن التعهد ببناء “طريق الحرير البحري” أصبح الآن خطة نشيطة تتضمن مشاريع بناء أو توسيع الموانئ، وتوسيع القنوات (مثل بناء قناة السويس الثانية). تم على سبيل المثال في سبتمبر 2014 إفتتاح أعمال بناء “ميناء مدينة كولومبو” في سريلانكا، للمشاركة بشكل فعال في مشروع طريق الحرير البحري. وقامت الصين بتمويل مشروع بنائه. كما أن الصين قد شرعت ببناء موانئ كبرى في شرق أفريقيا في جيبوتي ومومباسا ولامو (كينيا)، وتنزانيا، كما أحيت ووسعت ميناء بيرايوس في اليونان ليصبح أهم وأنشط ميناء في البحر المتوسط.
وقد توسعت هذه المبادرة اليوم لتشمل كل قارة أفريقيا وأمريكا الجنوبية، حيث تنفذ الصين مشاريع سكك حديد وموانئ وسدود ومحطات طاقة ومشاريع صناعية وزراعية وعلمية بالتعاون مع كل هذه الدول، وتقوم البنوك الصينية والمؤسسات المالية النابعة من المبادرة بتمويل معظمها عبر قروض طويلة الأمد وميسرة.
مفهوم ممر التنمية
تتكون المنصة الاقتصادية لأي مجتمع حديث من البنية التحتية الصلبة وهي مثلث النقل والطاقة وإدارة المياه، والبنية التحتية الناعمة وهو قطاعات الصحة والتعليم والبحث العلمي. وتقع مسؤولية توفير هذه المنصة لأبناء المجتمع على عاتق الدولة بالدرجة الأساس، حسب الخبرة التاريخية سواء في الشرق أو الغرب أثناء فترات الازدهار الاقتصادي. ولا يمكن الحصول على الفائدة النقدية من هذه الخدمات أو استغلالها من قبل القطاع الخاص لجني الأرباح، لأن المقصود منها ليس الربح المالي المباشر إنما الربح الاقتصادي غير المباشر عن طريق توفير النقل والطاقة والمياه الوفيرة والرخيصة واليد العاملة الماهرة لتستفيد منها الشركات الخاصة في الإنتاج وجني الأرباح عن طريق إنتاج سلع وخدمات يحتاجها المجتمع بالإضافة إلى تصدير الفائض إلى مجتمعات أخرى للحصول على العملة الصعبة. وتسترد الدولة استثماراتها في البنية التحتية عن طريق فرض ضرائب على نشاطات الشركات الخاصة هذه مقابل توفير البنية التحتية لها.
يجب اعتبار جميع أحزمة طريق الحرير باعتبارها ممرات تنمية وليست طرق تجارية فحسب.
العراق وطريق الحرير
إن العراق مؤهل تماما بسبب موقعه الجغرافي للاستفادة من كل هذه الوسائل والتسهيلات في عملية إعادة الاعمار والتنمية والاقتران بطريق الحرير الجديد، بحرا وبرا.
وقع العراق مع الصين على مذكرة تفاهم للتعاون في سياق مبادرة الحزام والطريق أثناء زيارة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي لبكين في شهر كانون الاول عام 2015. ثم تلى ذلك توقيع اتفاقية إطارية في شهر أيار عام 2018 بين وزارة الخارجية العراقية ومؤسسة ضمان الصادرات والإئتمانات الصينية (سينوشور) لتنظيم عملية تمويل مشاريع البنية التحتية التي قد تنجزها الشركات الصينية في العراق مقابل جزء من صادرات النفط العراقية للصين. وتعتبر هذه الاتفاقية نموذجية للعراق كما سيرد أدناه.
ميناء الفاو
يمكن للعراق الارتباط بطريق الحرير البحري عبر ميناء الفاو قيد الانشاء والذي سوف يصبح المنفذ الاستراتيجي للعراق إلى بحار العالم وكذلك بوابة دخول المستلزمات المطلوبة لإعادة إعمار العراق من مكائن وتجهيزات ومواد، وسوف يجعل العراق ممرا للنقل من المحيط الهندي إلى أوربا عبر تركيا، وأيضا إلى موانئ البحر المتوسط عبر سوريا. كما أن شبه جزيرة الفاو بحد ذاتها والمناطق المجاورة لها ستكون موقعا مناسبا لتأسيس مناطق اقتصادية وصناعية خاصة (SEZ) تستقطب الاستثمارات الأجنبية في الصناعات التحويلية مثل البتروكيمياويات. وسوف يساهم ذلك في تنويع مصادر الدخل للعراق وتخفيف الاعتماد على تصدير النفط الخام. كما أن المناطق الصناعية سوف تكون ضرورية لتشغيل الالاف من الشباب العراقيين والشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم العراقية.
الرابط البري
كما يمكن للعراق الارتباط بطريق الحرير البري عبر الممر الأقتصادي لطريق الحرير السادس من الصين الى اسيا الوسطى مرورا بإيران والعراق الى البحر المتوسط في سوريا ولبنان والخليج العربي. ويمكن الارتباط بإيران مباشرة عبر الحدود العراقية الايرانية في أكثر من نقطة مثل البصرة والكوت وديالى والسليمانية. سوف يشكل ذلك امكانية للتكامل الاقتصادي بين العراق وأيران ودول آسيا الوسطى والباكستان باعتبارها جميعا أقرب حلقة وصل مع الصين. أما من ناحية الغرب، فإن العراق سوف يصبح منفذا بريا ملائما الى البحر المتوسط للصين والباكستان ودول اسيا الوسطى وإيران، مما سينشط حركة التجارة والتبادل بالإضافة إلى الحصول على موارد من التجارة المارة بالعراق (الترانزيت).
كل هذه الأمور سوف تتطلب أولا بناء شبكة عراقية حديثة وكبيرة من البنى التحتية للنقل خاصة. على هذا الأساس، نرى أن الاتفاقية الصينية العراقية لها مميزات مهمة جدا في هذا السياق.
مزايا وفوائد الاتفاقية الصينية العراقية
من قراءة ما توفر حول الاتفاقيات العراقية الصينية في السنين الأخيرة، نعتقد جازمين أنها تمثل أفضل عرض تم تقديمه للعراق، ومن شأنها أن تسرع عملية إعادة الاعمار بشكل كبير وتنقل العراق اقتصادا ومجتمعا إلى مرحلة جديدة من التنمية تساعد البلد على الخروج من فخ الاقتصاد الريعي إلى فضاء الاقتصاد الانتاجي صناعيا وزراعيا.
تتمثل أهم مزايا هذه الاتفاقية في النقاط التالية:
• سوف تساعد الحكومة العراقية على بناء مشاريع البنية التحتية دون التأثير على الميزانية التشغيلية، ويستطيع العراق من دفع التكاليف المترتبة عليها بطريقة ومدة زمنية مريحتين.
• طريقة التمويل ذكية وخالية من الفساد، لأن رقم حساب الصندوق يكون موجودا في بنك في الصين وتتم التحويلات للشركات الصينية التي تنجز المشاريع في العراق. ويكون لهذه الشركات حساب في بنك عراقي يستخدم حصريا لدفع مرتبات العمال والمهندسين العراقيين المشتركين في المشروع، بالإضافة إلى شراء المواد داخل العراق ودفع مستحقات المقاولين العراقيين إذا استجد هذا الأمر.
• يمكن التوسع في صندوق إعادة الاعمار أو “النفط مقابل الاعمار” كما وزمنيا بحيث يغطي عددا اكبر من المشاريع. مثلا يمكن رفع سقف كمية النفط الداخلة في صندوق الاعمار الى ثلاثمئة ألف برميل.
• سوف تدخل العراق في شراكة مع أكبر قوة اقتصادية عالمية تفوقت على كل الدول الصناعية في مجال الانشاءات الهندسية الكبرى خاصة في مجال النقل والطاقة ومشاريع المياه والإسكان وبناء المستشفيات. وأصبحت الشركات الصينية للانشاءات تفوز بمعظم المناقصات لهذه المشاريع في العالم حتى في اوربا لأنها تعرض أقل كلفة وأسرع وقت للتنفيذ وبمواصفات عالمية.
• سوف تسمح لليد العاملة العراقية من عمال ومهندسين وإداريين (إذا اشترط الجانب العراقي ذلك) بالمشاركة والاستفادة من فرص العمل ومن الخبرات التي سوف تفيدهم في المستقبل. وهناك امثلة عديدة من دول اخرى.
• سوف تساعد على نقل التكنولوجيا من الصين وتأسيس صناعات سواء من أجل تغذية مشاريع الإعمار (من الاسمنت والحديد على سبيل المثال) وسوف تبقى هذه الصناعات تحت ادارة ويد عاملة عراقية حتى بعد انجاز المشاريع المشتركة مع الشركات الصينية. ويجب على الجانب العراقي أن يشترط جعل الأولوية لاستخدام المواد المنتجة في العراق في هذه المشاريع إذا كانت بالمواصفات المطلوبة. وهناك امثلة عديدة من دول اخرى.
• طبيعة العقود موحدة، أي انشاء ألاف الوحدات السكنية في مناطق مختلفة من العراق تكون تحت عقد واحد فقط وليس عقود بعدد المشاريع. هذا يوفر الوقت ويجنب الطرفين الغرق في إجراءات روتينية طويلة.
تشغيل الشباب العراقي
من أهم نواحي عملية إعادة إعمار الاقتصاد العراقي هي إيجاد فرص عمل منتجة للشباب العراقي سواء المتعلم منهم وغير المتعلم. ما نعنيه “بالمنتجة” هي ليس التوظيف الشكلي فحسب، بل الاستفادة من قدراتهم البدنية والفكرية لإضافة قيمة للعملية الانتاجية، بحيث يحصلون على مصدر رزق، وثانيا يبنون مشاريع أو ينتجون منتجات مفيدة للبلد، وثالثا يكتسبون خبرة وقدرات تمكنهم من تأسيس شركات صغرى ومتوسطة لتحسين الانتاج واستدامة العملية الانتاجية في البلد وصيانتها. يمكننا أن نفترض مطمئنين إلى ان المشاريع ذات الأولية في الاتفاقية العراقية الصينية بالإضافة إلى ما نقترحه من مشاريع جديدة سوف يستطيع تشغيل ما يقارب المليون شاب عراقي. بلغ مستوى البطالة الرسمي في العراق عام 2019 إلى 13% حسب البنك الدولي. وبلغت نسبة الشباب (15 إلى 24 سنة) العاطلين عن العمل 25%. وإذا أضفنا إلى هذه الأعداد نسبة المتوظفين بدون أداء أعمال مفيدة اقتصاديا (البطالة المقنعة) فإننا قد نصل إلى نسبة اجمالية للبطالة تقدر بحوالي 40%. تقدر اجمالي القوة العاملة (أي الأفراد القادرين على العمل بين سن 15 و 50 عام) في العراق بحوالي 11 مليون فرد. على هذا الأساس لدينا حوالي مليوني شخص بالغ عاطل عن العمل.
إن مجموعة المشاريع التي قد يتم تنفيذها في إطار الاتفاقية العراقية الصينية قد تشغل حوالي 500 ألف عامل عراقي. هذا إذا تم العمل بالتوصيات التي نقدمها من ناحية اشتراط أن تكون نسبة اليد العاملة العراقية (عمال غير ماهرين وماهرين ومهندسين وإداريين) في هذه المشاريع أعلى من نسبة اليد العاملة الصينية. بالإضافة إلى ذلك يمكن إضافة حوالي 500 ألف وظيفة منتجة في مشاريع خارج الاتفاقية هذه حسب ما نقترحه نحن. على هذا الأساس يمكن أيجاد مليون وظيفة للشباب العراقي في المدة القادمة (1 ـ 5 سنين).
تعتمد تقديراتنا على دراسة مشاريع مشابهة في دول ذات بنية اقتصادية ومالية وسكانية شبيهة بالعراق نسبيا مثل مصر والباكستان، التي يجري فيها بناء مشاريع بنية تحتية وإسكان وزراعة ومناطق صناعية شبيهة بتلك التي نقترحها. وهذان البلدان وغيرهما يعملان بشكل وثيق مع مبادرة الحزام والطريق مع الصين ويستقبلان استثمارات كبيرة جدا منها. ميزة العراق عن الباكستان ومصر هو وجود موارد طبيعية ذات دخل عالي (النفط) ومستمرة. على هذا الأساس يمكن توسيع القاعدة الصناعية والتوظيفية للشباب العراقي بشكل مستمر.
من الصعوبة بمكان إيجاد أية نواحي سلبية في هذه الاتفاقية، لكن على المفاوض العراقي أن يطرح شروطا تفيد العراق واليد العاملة العراقية والشركات العراقية. ويمكننا طرح بعض الأفكار في هذا المجال.
نقترح أيضا إجراء دراسات أخرى لتحديد المشاريع الاستراتيجية ذات الأولوية، علما أننا قدمنا للحكومة العراقية (عبر وزارتي الموارد المائية والزراعة) أقتراح لدراسة وتنفيذ مشروع الحزام الأخضر العراقي بالتعاون مع الشركة الصينية لمكافحة التصحر والزراعة في الصحراء (Elion Resources Group). هذا المشروع لوحده قد يشغل 50 ألف من الشباب العراقيين.
عدا ذلك نقترح تشكيل “فيلق مدني للصيانة البيئية” لتشغيل عشرات الآلاف من الشباب العاطلين عن العمل في مشاريع بيئية كبرى مشابهة للحزام الاخضر. ويمكن التخطيط لذلك وفقا لنموذج أمريكي تم تنفيذه في الثلاثينات من القرن الماضي بعد الركود العظيم بنجاح، لكن يمكن إعادة صياغته بطريقة حديثة. بمقدور مثل هذا البرنامج أن يشغل حوالي مئة ألف شاب عراقي على اقل تقدير في العام على مدى خمسة سنين، وذلك بالمقارنة مع ما تم في الولايات المتحدة حيث تم تدريب وتشغيل 250 ألف شاب (18ـ 25 سنة من العمر) و 39 ألف من البالغين في مشاريع (Civilian Conservation Corps) بين الأعوام 1933 و 1937. نظرا للاختلاف السكاني وحجم أراضي البلدين يمكن القول بأن مئة الف من اليد العاملة في العراق سوف تكون هناك حاجة لها.
أما بقية اليد العاملة العاطلة فسوف تستطيع الحصول على الوظائف الانتاجية والخدمية حين انطلاق عملية اعادة الاعمار خاصة اذا تم تفعيل القطاع الخاص العراقي وتوفير الائتمانات اللازمة له وخلق بيئة مناسبة لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية.
بالنسبة لموضوع طريقة التمويل، يمكن التوسع فيها بحيث يمكن اتباع ذات الطريقة المستخدمة في اتفاق اطار التعاون مع الصين لإنشاء بنك عراقي للإعمار والتنمية برأسمال عراقي ومساهمة الشعب العراقي والحكومة العراقية مناصفة لكن بشرط أن تمتلك الدولة العراقية حصة الأغلبية (51%) من رأسمال وأصوات البنك، ويمتلك المواطنون والبنوك الخاصة النسبة الباقية. ولدينا القدرة باستشارة خبراء عالميين لتصميم مثل هذا البنك. ميزة مثل هذا البنك هي قدرته على إصدار إئتمانات كبيرة ومتوسطة وصغيرة الحجم للشركات العراقية التي تنشط في المجالات الصناعية والزراعية دون الحاجة إلى اللجوء الى الاقتراض الأجنبي.
((انتهى المقترح المقدم للنائب العراقي))
الخلاصة
إن العراق يمتلك جميع المقومات المطلوبة لتحوله إلى اقتصاد صناعي زراعي ويخرج من فخ الاقتصاد الريعي خلال مدة اقصاها عشرة أعوام. إن الاقتراحات المطروحة هنا هي ليست الوحيدة المطروحة بل توجد افكار ومقترحات مشابهة من قبل اقتصاديين وخبراء عراقيين حكوميين ومستقلين. لكن ما نحاول عمله هنا هو دمج كل هذه الأفكار ووضعها في إطار فكري واضح وفتح باب النقاش في اوساط الخبراء وإطلاع الرأي العام عليها.
نتمنى أن تكون هذه المادة مفيدة لجميع الناشطين في ثورة الحريرفي العراق حاليا.
يمكن مراجعة المزيد من مفاهيمنا في الإقتصاد الفيزيائي وفق نظريات العالم الاقتصادي ليندون لاروش في القناة العربية التالية: