المحلل السويدى حسين العسكري منسق غرب آسيا في معهد شيللر العالمى لـ«المصري اليوم»: «خطة مصر» هي حجر الأساس لإعادة بناء غزة ومنع تهجير سكانها
الجمعة 25-04-2025 06:17 | كتب: مصباح قطب |
الرابط للمقابلة على موقع المصري اليوم
حاورت «المصرى اليوم» المحلل الاستراتيجى والاقتصادى حسين العسكرى، منسق شؤون غرب آسيا فى معهد شيللر العالمى، نائب رئيس معهد الحزام والطريق فى السويد، والمترجم الذى يجيد خمس لغات، والمشارك فى ومترجم الكتاب الأهم عن طريق الحرير، وهو «من طريق الحرير الجديد إلى الجسر البرى العالمى».
طرح «العسكرى» العراقى الأصل أفكارًا حيوية حول حل القضية الفلسطينية وإعمار غزة ودور بريطانيا فى العالم، وما سماه وهم طريق الحرير الهندى، وأهمية منع المضاربات المالية، وضرورة أن تغير تركيا منهجها الهدام، وأن تتعاون مع الأطراف الإقليمية بحسن نية، داعيًا لتأسيس بنك تنمية إقليمى ضخم.. وإلى نص الحوار:
■ هل من تعريف مبسط فى البداية لـ«حركة لاروش» و«معهد شيلر» وأهدافهما؟
– «حركة لاروش» أسسها عالم الاقتصاد الأمريكى والمفكر السياسى ليندون لاروش فى نهاية الستينيات فى الولايات المتحدة، ثم انتشرت فى أوروبا الغربية. كان تركيز لاروش وحركته منصبًا على بناء نظام اقتصادى عالمى جديد وعادل بديلًا لنظام بريتون وودز، الذى طعنه الرئيس نيكسون عام ١٩٧١ بالانسحاب من قاعدة الذهب.
كان لاروش قد أصبح معروفًا عالميًا بعد أزمة النفط والديون العالمية التى تلت حرب أكتوبر عام ١٩٧٣، وحصل على تأييد العديد من دول عدم الانحياز فى عام ١٩٧٦ لتأسيس بنك عالمى للتنمية وإلغاء ديون الدول النامية. تعتمد نظرية لاروش الاقتصادية على ما يسميه الاقتصاد الفيزيائى، أى العلاقة ما بين التقدم العلمى والتكنولوجى وزيادة إنتاجية ورفاهية المجتمع دون الاعتماد على النقد والمال كأساس للقيمة الاقتصادية. أما معهد شيللر فقد أسسته السيدة هيلجا لاروش، زوجة ليندون لاروش الألمانية، فى عام ١٩٨٤ تيمنًا بالشاعر والفيلسوف الألمانى فريدريك شيللر، ويهدف إلى نشر الثقافة الكلاسيكية وحوار الحضارات باعتبارهما جزءًا لا يتجزأ من التنمية البشرية وتأسيس نظام عالمى إنسانى.
■ كيف ترى المشهد العربى الراهن فى كليته؟
– المشهد العربى هو نتاج لسياسات دولية هدامة، وهو مشهد مفكك، وحاليًا فى أضعف حالاته بسبب الانقسام ما بين الدول العربية وتوجهاتها. لكن هناك محاولات جادة أولًا لإعادة البناء الاقتصادى باعتباره مصدر القوة الأول وليس القوة العسكرية بحد ذاتها، لأن «كعب أخيل» أو نقطة الضعف للدول العربية هو الاعتماد على مورد واحد للدخل، وعلى توفير الغذاء من مصادر خارجية، وهذه أهم مشكلة أمن قومى بنظرى تواجه الدول العربية، بالإضافة إلى الإرهاب والتهديد الإسرائيلى للسلم فى المنطقة.
■ اقترحتم حلًا لمشكلة إعمار غزة تحت مسمى خطة «الواحة»، يقوم على حل الدولتين وأرضية تعاون اقتصادى تؤسس للسلام، وتعاون مع آسيا ودول الجنوب.. هل أثمر هذا الطرح عن تجاوب؟
– تعتمد فكرة خطة الواحة التى طرحها لاروش فى عام ١٩٧٥ للسلام عبر التنمية بين الدول العربية وإسرائيل لكبح محاولات هنرى كيسنجر إبقاء المنطقة مشتعلة للأبد فى صراعات تديرها الولايات المتحدة وبريطانيا. والجزء الأساسى منها هو تحقيق الأمن المائى والغذائى عبر تحلية مياه البحر، واستخدام تقنيات جديدة فى الزراعة لتوفير المياه ورفع الإنتاج الزراعى، بالإضافة إلى تشجير الصحارى والمناطق الجرداء فى المنطقة. كما تهتم خطة الواحة ببناء البنية التحتية للنقل، مثل السكك الحديدية والطرق السريعة وإنتاج الطاقة، خاصة النووية منها، واستغلال الموارد الطبيعية فى المنطقة، مثل النفط والغاز لإنتاج مواد صناعية وليس مجرد تصدير النفط الخام. الخطوة الأولى بطبيعة الحال هى تأسيس الدولة الفلسطينية على أراضيها المسلوبة وفق قرارات الأمم المتحدة، ورد مظلومية الشعب الفلسطينى.
الناحية الأخرى المهمة لهذه الخطة هى وضع فلسطين والمنطقة فى السياق العالمى المتنامى، مثل بروز دول البريكس ومبادرة الحزام والطريق والاستفادة من الموقع الجغرافى والموارد الطبيعية والبشرية للمنطقة كجزء أساسى من اللوجستيات العالمية وسلاسل التوريد.
■ ماذا بعد اعتماد القمة العربية الخطة المصرية لإعمار غزة؟
– يعتبر معهد شيللر الخطة المصرية حجر الأساس للتوجه نحو إعادة بناء غزة ومنع تهجير سكانها، وأن لمصر اليوم قدرات هندسية وإعمارية أثبتت نجاحها على أرض الواقع فى مصر بإنجاز بناء العاصمة الإدارية ومشاريع كبرى أخرى مما يؤهلها للعب دور أساسى فى إعادة إعمار غزة بسرعة وكفاءة وتكلفة مناسبة. لكن ينبغى التفكير بشكل أوسع بالمنطقة ككل. ينبغى على الدول العربية تأسيس بنك عربى لاستثمارات البنية التحتية برأسمال مائة مليار دولار يكون مخصصًا، مثل البنك الآسيوى لاستثمارات البنية التحتية، لإصدار ائتمانات للدول فى المنطقة لمشاريع إعادة الإعمار والبنية التحتية. هذا البنك هو جزء مهم من خطة الواحة، لأنه من أجل وضع خطط طويلة الأمد قابلة للاستدامة لا يمكن الاعتماد فقط على نوايا المانحين وقدراتهم وظروفهم المتغيرة.
■ هل ما جرى فى سوريا بعد حكم «الجولانى» يمكن أن يخدم غزة وحل الدولتين أم يعزز هيمنة إسرائيل؟
– لا أعتقد أن ما يجرى فى سوريا منذ سقوط نظام الأسد «مهما كان الرأى فيه» يخدم القضية الفلسطينية بأى شكل من الأشكال ويعزز الهيمنة الإسرائيلية، لأن هذا الوضع جعل الاقتتال الداخلى والتوتر بين الدول العربية وجوارها الهم الأساسى بدلًا من دعم غزة والتضامن مع الشعب الفلسطينى.
■ هناك حديث دائر عن قرب انتهاء دور بريطانيا كمطبخ إمبراطورى «سام»، كيف ترى ذلك؟
– الإمبراطورية البريطانية استمرت فى الوجود لكن فى لباس مختلف، يعتمد على ثلاثة أعمدة أساسية: سيطرة مدينة الأعمال فى لندن على العديد من الأسواق المالية والعملية والمواد الخام عالميًا عبر الشركات البريطانية الكبرى، ثانيًا قدراتها الاستخباراتية الأقوى عالميًا، والتى استغلتها فى زعزعة استقرار الدول، ودعمها للجماعات الإرهابية الجهادية معروف جيدًا، خاصة فى مصر، وثالثًا عبر العلاقة الخاصة مع الولايات المتحدة، حيث مثلت بريطانيا العقل والولايات المتحدة العضلات، ولاتزال العلاقة الخاصة هذه سببًا رئيسيًا فى عدم الاستقرار العالمى.
■ وهل نشهد فعلًا السقوط الثانى للإمبريالية البريطانية الطابع وفق أفكار ليندون لاروش؟
– بريطانيا هى من تدير ساحة العمليات فى أوكرانيا بالنيابة عن الناتو والولايات المتحدة. وعندما كان الرئيس الأوكرانى فلاديمير زيلينسكى على وشك التوقيع على اتفاقية سلام مع روسيا فى إبريل عام ٢٠٢٢، توجه رئيس الوزراء البريطانى بوريس جونسون إلى كييف وأمره بالتوقف، واستمرت الحرب بشكل أكثر دموية منذ ذلك الوقت. كانت معضلة البريطانيين أثناء إدارة ترامب الأولى هى عدم رغبته فى استمرار العلاقة الخاصة. لكن أجهزة المخابرات الأمريكية ومكتب المباحث الفيدرالى ومؤسسات الدولة العميقة المتحالفة مع بريطانيا منذ عقود أعاقت الكثير مما كان ترامب ينوى القيام به. وعندما حاول ترامب التقرب حاليًا من روسيا والرئيس بوتين لوقف الحرب فى أوكرانيا، انبرى رئيس الوزراء البريطانى لمواجهة ذلك وإعاقة ذلك التوجه.
■ وكيف ترى تأثير ما يسمى طريق الحرير الهندى- الأمريكى الذى يمر عبر دول الخليج والأردن ثم إسرائيل فأوروبا؟
– مشروع الممر الهندى الشرق أوسطى الأوروبى الذى دفعت به إدارة جو بايدن الأمريكية هو مشروع سياسى وجيوسياسى وليس مشروعًا اقتصاديًا. ولا توجد أى دراسة جدوى اقتصادية له. الغرض من المشروع هو فقط بث الخلافات فى المنطقة وإعاقة مبادرة الحزام والطريق الصينية فى المنطقة. الفكرة كما كشفها رئيس الوزراء الإسرائيلى ومجرم الحرب بنيامين نتنياهو، فى خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، هو تقسيم المنطقة إلى أصدقاء إسرائيل وأعدائها. وليس هناك أى فكرة اقتصادية من المشروع. إن مبادرة الحزام والطريق التى تسير قدمًا فى المنطقة بتعاون الجميع هى مشروع تنموى وليس سياسيًا، بل هو مبنى على توافق المصالح والرؤى الاقتصادية للدول مع بعضها البعض، مثل التوفيق بين المبادرة ورؤية السعودية ٢٠٣٠، وبين المبادرة ومشروع تنمية منطقة قناة السويس الاقتصادية. كما أن جزءًا أساسيًا منها هو توطين الصناعات الحديثة من الصين إلى المنطقة مثلما يحصل فى المنطقة الاقتصادية للعين السخنة ومناطق أخرى فى مصر، والمنطقة الصناعية فى ميناء جيزان. وكل هذه المكونات لا توجد إطلاقًا فى الممر الهندى الشرق أوسطى الأوروبى.
■ قلتم إن سفينة شحن واحدة كبيرة تحتاج قطارًا طوله نحو ١٤٠ كلم لنقل الكونتينيرات التى عليها كدليل لاستحالة الاستغناء عن النقل البحرى، ولكن ألا يمكن أن يعمل الطريق الهندى فى نقل البيانات والاتصالات والطاقة؟
– الفكرة الهزيلة التى تبنتها إدارة بايدن ونتنياهو هى أن يصبح هذا الممر بديلًا لقناة السويس، وهذا أمر مستحيل عمليًا كما تذكرون فى السؤال. سوف تكلف هذه العملية مبالغ طائلة لأى شركة شحن. هذه فكرة رؤية وسخيفة للموضوع وترفضها أى شركة شحن محترمة. نعم تم تحويل جزء من البضائع إلى إسرائيل عبر هذا الممر بسبب أزمة باب المندب فى العامين الأخيرين. لكن هذه كمية ضئيلة جدًا جدًا. إن الشحن البحرى لايزال الأرخص والأكفأ من ناحية حجم البضائع التى يتم نقلها. إن أفضل وأكفأ ممر برى للنقل القارى هو خط سكك الحديد من الصين إلى الاتحاد الأوروبى ويمر عبر روسيا، وهو ممر حيوى جدًا، بحيث استثنته دول الاتحاد الأوروبى من العقوبات المفروضة على روسيا. لكن مع ذلك لا يشكل النقل عبر السكك الحديدية هذه سوى ثلاثة بالمائة من مجموع التجارة بين الصين والاتحاد الأوروبى الذى يتم بحريًا. إن بناء ممرات التنمية هو ليس مجرد وسيلة للتجارة إنما جزء أساسى من مبادرة الحزام والطريق التنموية أو أى مشروع تنمية سواء كان وطنيًا أو إقليميًا أو قاريًا. إن ترابط شبكات النقل والطاقة والاتصالات والمياه جزء حيوى جدًا من أى مشروع تنمية. لكن هذا موجود أساسًا فى مبادرة الحزام والطريق ولا حاجة لمشروع بديل. كل ما على الهند والاتحاد الأوروبى عمله هو الانضمام إليها وتوسيعها بالتعاون مع الصين ودول المنطقة لفائدة الجميع. إن تفكير اللعبة الصفرية تفكير هدام، حيث تعتبر فائدة طرف هى على حساب ضرر الطرف الآخر، وهذا منافٍ للمنطق الاقتصادى المبنى على التكامل والتكافل. والاتحاد الأوروبى خير مثال على ذلك، حيث تشترك جميع الدول الأعضاء فى شبكات النقل والطاقة وحركة رؤوس الأموال والعمالة والتكنولوجيا بحرية عبر حدود الدول لمصلحة الجميع.
■ وما ردك على من يقولون إن تجمع البريكس هو تجمع للمواقف السياسية أكثر من كونه ذا أثر اقتصادى ومالى وتكنولوجى مهم؟
– إن تجمع دول البريكس تجمع اقتصادى بامتياز، لكن ما يثير البعض هو أنه ليس معاديًا للغرب، بل هو لا غربى بمعنى أنه لا يتبع السياسات والإملاءات الغربية التى تهتم فقط بمصلحة الغرب. دول البريكس التى أصبحت الأسرع نموًا فى العالم انتبهت لهذه المشكلة بعد الأزمة المالية العالمية عام ٢٠٠٨، التى تسببت فيها الولايات المتحدة وأوروبا ولكن أثرت على كل الاقتصاد العالمى. لذلك على هذه الدول التفكير بمصالحها لكن دون الإضرار بمصالح الغرب.
■ هناك من يقول إن ترامب يحاول بتقربه الشديد من بوتين أن يدق إسفينًا فى العلاقه بين روسيا والصين؟
– هذه نظرية هنرى كيسنجر التى يؤمن بها الكثيرون فى الولايات المتحدة. لكن بوتين والروس قد تجاوزوا طريقة التفكير هذه لسببين. أولًا أن العلاقة مع الصين أصبحت مربحة جدًا للروس ووجودية استراتيجيًا. ثانيًا أن الثقة بين الروس والغرب قد انعدمت تمامًا.
■ معهد شيللر وحركة لاروش يؤمنان بقيادة رباعية جديدة للعالم من الصين وروسيا وأمريكا والهند، لكن الهند وترامب لا يُبديان تجاوبًا مع ذلك؟
– كانت حركة لاروش تنادى بقيادة رباعية لتجاوز مشكلة العلاقة الخاصة بين بريطانيا والولايات المتحدة، باعتبارها عائقًا أمام التوافق مع دول العالم. إن الأوليجاركية الأنجلوأمريكية وخلفها أيضًا جزء مهم من الأسر الأوروبية المسيطرة تريد إبقاء الهيمنة الغربية على العالم. لكن العالم دخل اليوم فى عهد جديد وهو عهد التعددية القطبية. المشكلة تكمن فى عقلية الرئيس الأمريكى التى تؤمن فقط بمصلحة أمريكا اولًا مع العلم أن مصلحتها هى فى إيجاد توافق مع القوى العالمية الأخرى. إن المسألة الأساسية لاتزال هى إيجاد نظام عالمى اقتصادى للتنمية الاقتصادية غير المحدودة للجميع. ما نعنيه بذلك هو نشر التنمية الصناعية والتكنولوجية فى كل العالم وليس احتكارها فى لعبة صفرية. إن فلسفة رابح- خاسر، وقانون الغاب يضران الجميع. لذلك يجب التفكير من منظور رابح- رابح. العقدة الأساسية تكمن فى التفكير الاستعمارى البريطانى الذى يقول إن هناك كمية محدودة من الموارد، وإن الجميع يحارب الجميع من أجل الحصول على أكبر حصة لنفسه. وهى فلسفة خاطئة علميًا ولا إنسانية. إن التقدم العلمى والتكنولوجى قد مكننا من إيجاد موارد طبيعية جديدة لم نكن نعرفها من قبل، مثل النفط والغاز واليورانيوم، ومعادن مثل الألومنيوم والمعادن الصناعية النادرة. وهناك ما يكفى الجميع وأن المنافسة يجب أن تكون على التقدم وليس كبح الآخرين. إذا تمكن العالم من استيعاب هذه الحقيقة العلمية والإنسانية فسوف تتلاشى معظم أسباب الصراعات العالمية.
■ حركة لاروش تطرح فصل المضاربات المالية عن النظام المصرفى وتوجيه الائتمان إلى كل ما هو إنتاجى فى الزراعة والصناعة والخدمات، هل من السهل تطبيق هذا الاقتراح؟
– حل هذه المسألة بسيط وقد تم تطبيقه عبر قانون تم سنه فى عام ١٩٣٣ بعد الكساد العظيم فى أمريكا وموجة المضاربات التى أدت إلى انهيار الاقتصاد الأمريكى وجزء كبير من الاقتصاد الأوروبى. اسم القانون هو جلاس/ ستيجال (بناء على اسم عضوى كونجرس)، واستمر العمل به بنجاح إلى عام ١٩٩٩، وينص على فصل البنوك الاستثمارية، أى المؤسسات المالية التى تمارس المضاربات المالية والاستثمارات فى أسواق المال، عن البنوك التجارية، أى البنوك التى تستقبل ودائع الناس ثم تقرضها للأفراد والشركات التى تستثمر فى مشاريع إنتاجية أو عقارات. الشركات المالية تكون غير محمية من قبل الدولة مثل المستثمر أو المقامر إذا خسر أمواله فإنه يتحمل مسؤولية المقامرة، وبهذا لا تقع أعباء على المجتمع. البنوك التجارية تكون محمية وودائع الناس تكون محمية إلى مستوى معين من قبل الدولة حتى وإن أفلس البنك لأنها تؤدى وظيفة مهمة للاقتصاد المنتج. خلط النوعين من البنوك جعل عامة الناس من المودعين تحت رحمة المضاربين الذين يأخذون الودائع ويقامرون بها ويأخذون الأرباح لأنفسهم حينما ينجحون، لكنهم يريدون من المودعين والحكومة أن يشاركوهم الخسارة وضخ أموال جديدة خوفًا من انهيار النظام المصرفى للبلد. وهذا ما حصل بعد أزمة عام ٢٠٠٨ عندما اضطر الفيدرالى الأمريكى والخزانة إلى طبع المال ومنحه للمؤسسات المالية التى خسرت المليارات فى المضاربة بأوراق مال مرتبطة بسوق العقارات الأمريكية عبر ما يسمى التيسير الكمى لمنع انهيار النظام المصرفى. لكنّ أيًا من هذه الأموال الجديدة لم يُستخدم لبناء مشاريع إنتاجية جديدة. الحل كما تقترحه حركة لاروش هو العودة إلى قانون جلاس/ ستيجال، وفصل المؤسسات المالية المضاربية عن البنوك الشرعية.
■ كعراقى الأصل.. كيف تُقيِّم دور إيران فى المنطقة من الزاوية المتعلقة بالتنمية العادلة والتقدم الاقتصادى والاجتماعى والسلام للجميع؟
– بالنسبة لى كعراقى أرى أن بلدى قد تورط فى حرب عبثية مع إيران لمدة ثمانى سنين، ثم حلت كارثة احتلال الكويت وتبعاتها مثل الحصار الاقتصادى الإجرامى ثم غزو العراق عام ٢٠٠٣ بطريقة غير شرعية، ولايزال العراق يعانى من سيطرة الولايات المتحدة على المقدرات الاقتصادية والسياسية له عن طريق السيطرة على جميع عوائد مبيعات النفط العراقى التى يتم الاحتفاظ بها فى بنك الاحتياط الفيدرالى الأمريكى فى نيويورك تحت حماية الرئيس الأمريكى وفق الأمر التنفيذى رقم ١٣٠٣٣ المستمر من عام ٢٠٠٣ حتى الآن. بالنسبة لإيران، وبسبب استهدافها بالعقوبات والضغط السياسى على مدى أربعين عامًا من قبل الغرب، فإنها تحاول البقاء والمناورة وإيجاد دور لها فى المنطقة. أنا لا أظن أن لإيران أطماعًا فى العراق لكنها بحاجة لنفوذ فيه لمواجهة ما تتعرض له من ضغوط. أنا أؤمن بضرورة التعاون بين الدول كوسيلة لبث الاستقرار والسلام. إذا تم رفع العقوبات والضغوطات عن إيران وانتهت الحروب بالنيابة فى المنطقة فإننا سنشهد عصر تقدم اقتصادى واستقرار مهمين لجميع الدول لأن مقومات ذلك موجودة اليوم، خاصة أن الدور الصينى أصبح فعالًا من ناحية التوفيق بين مصالح دول المنطقة كما حصل فى المصالحة بين السعودية وإيران بوساطة صينية، وتوقيعها اتفاقيات تعاون استراتيجى مع الجانبين وفق مبادرة الحزام والطريق.
■ أصبح للسعودية دور كبير فى مجال المفاوضات حول القضايا الدولية الكبيرة، فهل الدعم الأمريكى لهذا التوجه يأتى من أن ترامب يُغرى السعودية بجوائز كبيرة حتى تبتعد ولو نسبيًا عن الصين وتقوم بنوع من تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، أم هى قناعة خالصة بأهمية الدور السعودى؟
– تنامى دور السعودية كوسيط فى قضايا دولية ناتج بشكل كبير عن تزايد الثقة بها من قبل أطراف متصارعة فى ذات الوقت، مثل روسيا والولايات المتحدة والصين، لأنها أثبتت عمليًا أنها تحترم اتفاقياتها مع كل هذه الأطراف، مثل التعاون مع روسيا فى المحافظة على استقرار أسعار النفط عبر مجموعة أوبك بلاس والمحافظة على علاقات دبلوماسية جيدة معها، خاصة بين شخص ولى العهد محمد بن سلمان والرئيس فلاديمير بوتين. بنفس الطريقة أثبتت السعودية فى السنين الأخيرة أنها ملتزمة بشكل قوى باتفاقيات التعاون الاقتصادى والاستراتيجى مع الصين رغم الضغوط المفروضة عليها من قبل الولايات المتحدة. إن السعودية اليوم تهتم بمصالح شعبها أولًا، وهذا محط احترام الجميع. لكن فى ذات الوقت تسعى الولايات المتحدة جاهدة لكى تكون السعودية مجرد عضو فى فريقها ينفذ رغباتها. باعتقادى ذاك الزمن قد ولّى. أما من ناحية التطبيع مع إسرائيل فمن المهم أن السعودية قد طرحت بشكل قوى موقفها المبدئى، خاصة خلال العامين الماضيين من الحرب الإجرامية على غزة، وأنه لا تطبيع مع إسرائيل بدون إعادة حقوق الشعب الفلسطينى وتأسيس الدولة الفلسطينية، وهو تطبيق للمبادرة العربية لعام ٢٠٠٢. باعتقادى أن الرئيس ترامب يحترم القادة الأقوياء الذين يتمسكون بمبادئهم، لكن فى ذات الوقت يؤمن بعملية التفاوض معهم والمناورة قدر الإمكان لتحقيق أهدافه هو.
■ أسألك أخيرًا عن أهداف تركيا من وراء تواجدها عسكريًا وعبر ميلشيات، وتجاريًا، فى الإقليم بشكل مكثف، وبخاصة طبعًا فى سوريا وليبيا والسودان والصومال وإثيوبيا؟
– تحاول تركيا قدر ما تستطيع اللعب على عدة حبال لتحقيق طموحاتها باعتبارها قوة إقليمية كبرى وتحقيق مكاسب اقتصادية عبر الدخول فى مغامرات عسكرية واستخباراتية لصالح هذه القوة أو تلك، مثلما فعلت فى سوريا وحاليًا فى العراق وفى ليبيا والقرن الأفريقى. فهى من ناحية دولة عضو فى الناتو وتدعم أوكرانيا عسكريًا، لكنها فى ذات الوقت تحتفظ بعلاقات دبلوماسية واقتصادية مع روسيا للاستفادة من الطرفين. إن مثل هذا الدور يعتبر هدامًا للمنطقة وحتى لتركيا على المدى البعيد، حيث إنها يمكن أن تخسر معظم أوراق اللعب التى بيدها إذا حصل توافق بين القوى العظمى والدول الإقليمية فى المستقبل. من الأفضل لتركيا التعامل مع دول الجوار باستخدام موقعها الجغرافى وقدراتها الاقتصادية بشكل بناء وليس هدامًا، وباعتقادى أن التوافق الرباعى بين مصر وتركيا وإيران والسعودية ستكون له تأثيرات مهمة جدًا للمنطقة إذا تم بحسن نية، وتحقيقًا للمصالح المشتركة للجميع