حسين العسكري
تعليق على مقالة «بين نموذجي الاقتصاد الطبيعي والمالي» للكاتب البحريني عبد الجليل النعيمي المنشورة في صحيفة «البيان» يوم 2 نوفمبر 2009.
يثير الكاتب عبد الجليل النعيمي موضوعا ونقاشا طالما حلمنا بظهوره على صفحات الجرائد العربية ومواقع النقاش، ألا وهو الاقتصاد من منظور علمي وليس نقدي. ولكننا نختلف مع فكرة «موارد طبيعية شحيحة»، إذا كان المقصود بالشح باعتبارها حالة مطلقة وليست نسبية. فهذا المفهوم نسبي جدا ومرتبط ارتباطا كليا بالمستوى التقني والعلمي للمجتمع.
إن من الخطأ المزج بين نظام حياة الإنسان وارتباطه بالطبيعة (الإيكولوجيا)، وبين إيكولوجيا الكائنات الحية الأخرى. ووفقا لنظرية توماس مالثوس البريطانية الاستعمارية لا يوجد فرق بين الاثنين، حيث إن نمو أعداد الحيوانات أو البشر في بيئة ما نموا هندسيا (أي 1، 2، 4، ,,16.)، يؤدي إلى استنزاف موارد الغذاء التي لا تتزايد إلا حسابيا (1، 2، 3، 4، 5,,.)، وبالتالي وصول المجتمع إلى طريق مسدود وتعرضه لنقص الغذاء والمجاعة. يصح هذا الأمر فقط بين البهائم، بينما يساعد الاكتشاف العلمي والتقدم التقني، المجتمع الإنساني على زيادة إنتاجه من الغذاء ليتوافق مع الزيادة في عدد السكان.
هل الفكر الإنساني جزء من عملية التغيير الجيولوجي لكوكب الأرض؟ هذه الفكرة طرحها بشكل علمي دقيق عالم الجيوكيمياء الروسي/ الأوكراني فلاديمير فيرنادسكي (1863-1945). نظرية الارتقاء التي جاء بها فيرنادسكي، (وهي تختلف عن نظرية تشارلس داروين في ارتقاء الأنواع باعتبارها مجرد أنواع بيولوجية صرف)، تفترض تقسيم مكونات الكون إلى ثلاثة أقسام:
أ ـ غير حية، مثل الجمادات أي المعادن والمواد الكيمياوية والجيولوجية (الليتوسفير).
ب ـ المكونات الحية، وتشمل كافة الكائنات العضوية من نباتات وحيوانات وبكتيريا وغيرها الموجودة في «البيوسفير» أي المجال الحيوي. وتقوم الكائنات الحية باستغلال المواد المعدنية والكيمياوية في الليتوسفير في عملية نموها وبهذا تغير طبيعة المجال الحيوي ليصبح جزئا من المجال الحيوي، مثلا تقوم النباتات بامتصاص الماء والمعادن من التربة وثاني اوكسيد الكاربون من الجو وأشعة الشمس من الفضاء وتحولها جميعا الى مادة عضوية عبر عملية التمثيل الضوئي. بذات الطريقة قامت كائنات مجهرية قبل حوالي ملياري عام بامتصاص عنصر الحديد الذائب في المياه وبعد موتها وتراكمها في هيئة ترسبات في قاع البحر أصبحت طبقات هذه الترسبات مصدرا للحديد الذي نستخدمه اليوم. كذلك النفط والغاز الخام هما نتيجة لعمليات حيوية
ج ـ المرتبة الأعلى فوق هاتين المرتبتين هي «النووسفير» (من كلمة نووس اليونانية، وتعني الإدراك الإنساني)، حيث يوجد الإنسان المفكر القادر على اكتشاف قوانين الكون وتحويلها إلى فعل فيزيائي، في شكل وسائل إنتاج وتقنيات تغير من مستواه الحياتي وتغير محيطه وبيئته. ويستخدم الانسان كلا من اللليتوسفير الجيولوجي والبيوسفير الحي في عملية التطور هذه، وهذا هو الاقتصاد. فبينما تعيش الكائنات الحية الأخرى في اطار واعتمادا بشكل كلي على البيئة الحيوية ومحدداتها، مثل الموارد المتاحة (النظام الايكولوجي)، يعيش الانسان في النظام الاقتصادي حيث يتحكم بالموارد ولا يتقيد بشحتها وكثرتها، لأنه يستطيع ايجاد بدائل لها .
إن عملية التغيير في الكون وفي غلاف الكرة الأرضية، مرت عبر مليارات السنين بعملية تطور موجهة نحو المزيد من التركيز والتعقيد. وبمجيء الإنسان إلى هذه البيئة ازدادت عملية التغيير تسارعا وتركيزاً، حيث دخل عامل الفكر والاكتشاف العلمي في عملية التغيير الطبيعي. لذلك، وبخلاف نظريات حركات حماية البيئة التي تعتبر الإنسان مجرد طفيلي مخرب، تعتبر هذه النظرية أن التطور الاقتصادي الذي جاء به الإنسان، ويغير فعلا البيئة التي يعيش فيها ويجعلها أكثر ملاءمة لوجوده، هو عملية «طبيعية» بكل معنى الكلمة من الناحية الانسانية
فمثلا المجتمعات التي تعيش في مناطق صحراوية وتحاول أن تجلب المياه من أعماق الأرض أو تحلي مياه البحر، لإحياء أرض ميتة وجعل البيئة أكثر ملاءمة لأبنائها، هي مجتمعات تساهم في تطور بيئة الكوكب.
عالم الاقتصاد الأمريكي ليندون لاروش الذي يذكره الأستاذ النعيمي، يبني مفاهيمه على بعض أفكار فيرنادسكي. فمثلا يعتبر لاروش فكرته لبناء الجسر القاري الأوروبي الآسيوي الإفريقي (طريق الحرير الجديد)، وتعمير المساحات الهائلة غير المأهولة من كوكب الأرض مثل الصحاري الجرداء في إفريقيا والعالم العربي، هي جزء لا يتجزأ من رسالة الإنسان ووجوده. يختصر لاروش، للتبسيط، علم الاقتصاد الفيزيائي في جملة واحدة هي: «زيادة سلطان الإنسان في الطبيعة والكون». وهو مفهوم لا يختلف عن مفهوم «الاستخلاف» في الدين الإسلامي.
بالنسبة للاروش، فإن الاقتصاد هو جزء من علم الفيزياء والحضارة الإنسانية عموما، وليس عبد للمال. النقد والدراهم والدنانير هي مجرد أدوات يتم خلقها (أو ينبغي، من قبل حكومات الدول الوطنية ذات السيادة) واستخدامها كتعبير تبادلي لقيمة تكمن في عملية إنتاج الثروة المادية، ولا تحتوي تلك الأموال قيمة اقتصادية مستقلة بذاتها. يضيف لاروش مفهوما آخر، وهو علاقة التقدم العلمي والتكنولوجي بمعدل ارتفاع «الكثافة السكانية النسبية المحتملة»، وهي تلك النسبة من السكان الذين تمكن إعالتهم، إذا تم استخدام كامل الطاقة التقنية والعلمية الموجودة حاليا.
إن الحكومة، أية حكومة، لا شرعية لها إن لم تضع كأولى أولوياتها توفير البيئة الاقتصادية التي تمكن جميع السكان، من ولادتهم إلى سن التخرج، من كسب أكبر قدر من المعرفة العلمية والثقافية والأدبية، حتى يتمكن هذا الفرد من استخدام قدراته الخلاقة في المساهمة في تنمية وتطوير المجتمع.
يطالب لاروش لعدة سنين، بتأسيس نظام عالمي بديل عن النظام الحالي المفلس. وكان لاروش قد تنبأ بانهيار هذا النظام وقدم طرحا علميا للكيفية التي سينهار بها النظام قبل عدة سنين. فهو يدعو لتأسيس نظام اقتصادي ونقدي جديد مبني على أساس الائتمانات الإنتاجية، وتتفق الأمم على نظام عملة بأسعار صرف ثابتة نسبيا، وقيام تلك الأمم بإصدار ائتمانات رأسمالية سيادية موجهة نحو بناء البنى الاقتصادية الأساسية مثل النقل والطاقة والمياه، بخلاف ما يجري الآن في ظل نظام العولمة، حيث تعمل البنوك المركزية المستقلة خادما لمصالح مالية خاصة متمركزة في لندن ونيويورك، وتستخدم إصدارات العملة الحكومية لأغراض مضاربية لا علاقة لها بتحسين الوضع الاقتصادي للشعوب.
هذه الفكرة تعود إلى النظام الاقتصادي الأمريكي الأصلي، الذي أسسه أليكساندر هاملتون في القرن الثامن عشر، والذي يكمن في صلب الدستور الأمريكي، حيث لا يجوز للدولة إصدار أية ائتمانات أو عملة أو ضمانات للبنوك الخاصة، إذا لم يكن كل دولار فيها مرتبطا بمشروع إنتاجي في البنية التحتية أو الصناعة أو الزراعة. وهذه كانت الطريقة التي تمت بها إعادة بناء الاقتصاد الأمريكي المتهالك بعد الكساد العظيم، في ظل إدارة الرئيس فرانكلن روزفلت في الثلاثينات.